الاستواء جلوس

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:


قال الله تعالى الرحمن على العرش استوى

والاستواء على العرش لا يكون عند أهل اللغة إلا بجلوس

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ خَارِجَةَ، يَقُولُ: " الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ بَلِّغُوا نِسَاءَهُمْ أَنَّهُنَّ طَوَالِقُ، وَأَنَّهُنَّ لَا يَحْلِلْنَ لِأَزْوَاجِهِنّ َ لَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلَا تَشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، ثُمَّ تَلَا {طه} [طه: 1] {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَهَلْ يَكُونُ الِاسْتِوَاءُ إِلَّا بِجُلُوسٍ "

وخارجة مضعف في الرواية لكنه لا تأثير له هنا إذ هو لا يروي هنا شيئا إنما يتكلم في معاني الآية وهو من أهل العلم وقد تناقل أئمة السلف تفسيره هذا في كتبهم المؤلفة في المعتقد والرد على أهل الزيغ من غير نكير كعبد الله بن أحمد والخلال وابن بطة وغيرهم

وبه فسره أئمة التفسير من الصحابة والتابعين

قال الحكم بن معبد في كتاب الرؤيا: "ثنا موسى، ثنا روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: {الرحمن على العرش استوى}، فقال: جالس. اهــ

قال محمد بن المختار المصري في بحثه في المسألة: "والشعبي رحمه الله لم يسمع من ابن مسعود رضي الله عنه، وسمع كبار أصحابه،
ومن المعروف عنه توقي التفسير بغير علم وإنكار ذلك أشد الإنكار،

قال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا علي بن مسهر، عن الحسن بن عمرو، عن الشعبي قال: أدركت أصحاب عبد الله، وأصحاب علي، وليس هم لشيء من العلم أكره منهم لتفسير القرآن،

قال: وكان أبو بكر يقول: «أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم». اهــ"

وقال الطبري: وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، قال: قال الشعبي: «والله ما من آية إلا قد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله».

وقال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا زكريا، قال: كان الشعبي يمر بأبي صالح باذان، فيأخذ بأذنه فيعركها، ويقول: «تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن». اهـ كلامه

- قال الحكم بن معبد في كتاب الرؤية: حدثنا محمد بن حاتم، ثنا الفضل بن عباس، ثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن يزيد بن هارون، عن عباد بن منصور، قال: سألت الحسن وعكرمة، عن قوله {الرحمن على العرش استوى}، قالا: جلس. اهـ وإسناده حسن

قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال: سمعت عبدالوهاب يقول: {الرحمن على العرش استوى} قال: «قعد»

وقيل للإمام أحمد بن حنبل: من نسأل بعدك؟ فقال: سل عبد الوهاب.وقال الإمام أحمد: عبدالوهاب أهل يُقْتَدَى به، عافا الله عبدَالوهاب، عبدُالوهابِ إمامٌ، وهو موضعٌ للفتيا.

قال الإمام النسائي في سننه: " قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ , فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ جَارِيَةً لِي كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لِي، فَجِئْتُهَا وَفَقَدْتُ شَاةً مِنَ الْغَنَمِ، فَسَأَلْتُهَا , فَقَالَتْ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ، فَأَسِفْتُ عَلَيْهَا، وَكُنْتُ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَلَطَمْتُ وَجْهَهَا وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ، أَفَأُعْتِقُهَا ؟ , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللهُ؟» , قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «فَمَنْ أَنَا؟» , قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «فَأَعْتِقْهَا»

أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيًّا الْأَسَدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَعْلَمَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف: 14]، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ "هـــ

وما ذكر الحديث الثاني في تفسير الآية إلا ليبين أن "الاستواء على" معناه في اللغة الجلوس

قال شيخ الإسلام الأنصاري الهروي في تفسيره لآية الاستواء: "الاستواء في اللغة جلوس وصعود والاستقرار" ثم رد على قول الجهمية الذين فسروه بالاستيلاء فقال: " والعرش في اللغة العرب يأتي بمعنى"السرير". وعلى هذا الاعتقاد أئمة أهل السنة والجماعة من لدن مصطفى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه بإحسان" هــــ

إذا فالجلوس إحدى معاني الاستواء وتفاسيره الثابتة عن سلف الأمة وأئمتها المعروفة في اللغة العربية

سئل ابن عثيمين: عثمان الدارمي في رده على بشر المريسي أورد أن الاستواء يأتي بمعنى الجلوس، ما رأي فضيلتكم؟

الجواب
الاستواء على الشيء في اللغة العربية يأتي بمعنى الجلوس، قال الله تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } [الزخرف:12-13]، والإنسان على ظهر الدابة جالس أم واقف؟ هو جالس، لكن هل يصح أن نعديه إلى استواء الله على العرش؟ هذا محل نظر، فإن ثبت عن السلف أنهم فسروا ذلك بالجلوس فهم أعلم منا بهذا، وإلا ففيه نظر هـ

أما السنة ففيها أحاديث متعددة بذكر الجلوس منها ما هو ثابت ومنها ما لم يثبت
أما حديث عبد الله بن خليفة المشهور وفيه: "«إِذَا جَلَسَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْكُرْسِيِّ سُمِعَ لَهُ أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ».

وهذا الحديث روي من وجوه منهم من أسنده منهم من أرسله ومنهم من أوقفه على عمر رضي الله عنه

وقد أعله قوم بعلل لكن أكثر أهل السنة قبلوه واحتجوا به

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " أَكْثَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَبِلُوهُ " الفتاوى 16/435

أما ما أعلوا به الحديث فنجيب عليه علة علة

العلة الأولىقولهم عبد الله بن خليفة مجهول وقد تفرد به

والجواب من عدة أوجه

الأول أن من الناس من وثقه

قال ابن حبان في الثقات: " 3683 - عبد الله بن خليفه الهمداني يروى عن عمر عداده في أهل الكوفة روى عنه أبو إسحاق السبيعي"

قال السيوطي في أسماء المخضرمين: " وترجمته مشهورة وهو ثقة"

قال الهيثمي وهو يتكلم على هذا الحديث: " ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن خليفة الهمذانى وهو ثقة"

الثاني قد صحح قوم من كبار أئمة الجرح والتعديل كأحمد بن حنبل وكيع بن الجراح والدارمي والطبري وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم هذا الحديث فلو لم يكن ابن خليفة عندهم في حيز القبول لما استساغوا ذلك

كما صحح أسانيد فيها ابن خليفة الحاكم في مستدركه وابن حجر العسقلاني في نتائج الأفكار وغيرهم من المشتغلين بالحديث

الثالث أن عبد الله بن خليفة شيخ من أكابر التابعين بل ومخضرم بل وذُكرت له صحبة ولا تصح

قال الذهبي في الميزان: " عبدالله بن خليفة الهمداني، تابعي مخضرم" وذكره السيوطي في المخضرمين أيضا

ومثل هذه الطبقة من الأئمة من قال لا تضر فيها الجهالة

قال الذهبي (( ديوان الضعفاء ))(ص374): " أما المجهولون من الرواة ؛ فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقي بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ"

ثم هناك شاهد لهذا الحديث من حديث جبير بن مطعم بسند قوي وفي ألفاظ الحديثين تطابق حتى ذكر البزار وابن القيم وغيرهما بعضها كشاهد لبعض وهو يدل على أن عبد الله بن خليفة ضبط هذا الحديث

ثم فإن عبد الله بن خليفة يظهر على مروياته أنه يضبط

قال ابن أبي شيبة: " حَدَّثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّهُ انْقَطَعَ شِسْعُهُ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: كُلُّ مَا سَاءَك: مُصِيبَةٌ
حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى, قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَالَ: انْقَطَعَ قِبَالُ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفي قِبَالِ نَعْلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُلُّ شَيْءٍ أَصَابَ الْمُؤْمِنَ يَكْرَهُهُ، فَهُوَ مُصِيبَةٌ"

فقد وافقت روايته هنا رواية الثقات

الرابع: قال الدارقطني في سننه: " أهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر يتفرد بروايته رجل غير معروف ، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلاً مشهوراً ، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه ، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعداً"

وابن خليفة روى عنه اثنان أبو إسحاق السبيعي ويونس بن أبي إسحاق

العلة الثانية قول بعضهم: "وفي سماعه عن عمر نظر"

وهذه العلة ليست بشيء والجواب عنها من وجهين

الأول كيف يكون فيه نظر وهو رجل مخضرم قد كان يمكنه أن يسمع عن النبي لو أدركه فكيف بعمر؟

الثاني قال هناد في الزهد: " حدثنا أبو الأحوص عن أبي اسحاق عن عبدالله بن خليفة قال كنت مع عمر في جنازة فانقطع شسعه فاسترجع ثم قال كل ما ساءك مصيبة " فهذا تصريح باللقاء

العلة الثالثة قولهم إنه مضطرب

فالجواب أن يقال إن الاضطراب لا يصار إليه إلا عند عدم إمكان الترجيح فكيف والترجيح ممكن أعمله أهل العلم بالحديث؟

والذين رووا هذا الحديث وموقوفا شعبة وسفيان الثوري وكل واحد منهما يُرجح على إسرائيل الذي اختلف عليه في روايته

قال البزار مشيرا إلى هذا: " ولم يسنده إلا إسرائيل وقد رواه الثوري عن أبي إسحاق عن خليفة عن عمر موقوفا "

وإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه مؤلفا مستقلا في بيان المحفوظ من هذا الحديث

قال ابن عبد الهادي في العقود الدرية ساردا مؤلفات الشيخ: " والكلام على حديث عبدالله بن خليفة عن عمر وهل هو ثابت أم لا وأي ألفاظه هو المحفوظ"

والموقوف في مثله حجة فهل يظن أحد أن الفاروق يتكلم في مثله برأيه وهواه؟!

العلة الرابعة زعمهم أن أبا إسحاق مدلس وقد عنعن

وهذا ليس بشيء فإنه رجل مقل في التدليس والأصل قبول روايته أمثاله

قال يعقوب بن سفيان: "حديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة"

هذا وقد قال شعبة: " كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وأبو إسحاق وقتادة"

وشعبة نفسه راوي هذا الحديث!

قال المزي: " روى له بن ماجة في كتاب التفسير في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى من رواية شعبة عن أبي إسحاق عنه عن عمر موقوفا "

فكيف وقد صحح هذا الحديث بعينه أئمة الحديث الكبار الذين عليهم الاعتماد في التمييز بين الصحيح والسقيم؟

فبهذا يتم الجواب عما أعلوا به الحديث ولله الحمد والمنة

ولنذكر من صححه واحتج به

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة: " سئل عما روي في الكرسي، وجلوس الرب عز وجل عليه؟ رَأَيْتُ أَبِيَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَحِّحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ وَيَذْهَبُ إِلَيْهَا وَجَمَعَهَا فِي كِتَابٍ وَحَدَّثَنَا بِهَا"
حَدَّثَنِي أَبِي، ثنا وَكِيعٌ، بِحَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْكُرْسِيِّ» فَاقْشَعَرَّ رَجُلٌ سَمَّاهُ أَبِي عِنْدَ وَكِيعٍ فَغَضِبَ وَكِيعٌ وَقَالَ: أَدْرَكْنَا الْأَعْمَشَ وَسُفْيَانَ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يُنْكِرُونَهَا" هـــ

قال إمام أهل المشرق أحد أئمة الحفاظ عثمان بن سعيد الدارمي بعد روايته حديث ابن خليفة مباشرة: " فَهَاكَ أَيُّهَا الْمَرِيسِيُّ خُذْهَا مَشْهُورَةً مَأْثُورَةً فَصُرَّهَا، وَضَعْهَا بِجَنْبِ تَأْوِيلِكَ الَّذِي خلقت فِيهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

قال صالح بن أحمد بن حنبل في مسائله: قال أبي حدث وكيع بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة إذا جلس الرب سبحانه على العرش فاقشعر زكريا بن عدي فقال له وكيع وغضب أَدْرَكْنَا الْأَعْمَشَ وَسُفْيَانَ يُحَدِّثُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يُنْكِرُونَهَا"

وقد قال ابن جرير في تفسير آية الكرسي بعد سرد الأقوال الواردة في تفسير الكرسي: "قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَجْهٌ وَمَذْهَبٌ، غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ هُوَ [ص:540] أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ثم ذكر حديث ابن خليفة

وقد صححه ابن الزاغوني في كتاب مستقل والمقدسي في المختارة وابن تيمية والذهبي في العرش

قال الذهبي: " هذا حديث محفوظ من حديث أبي إسحاق السبيعي إمام الكوفيين في وقته، سمع من غير واحد من الصحابة، وأخرجا حديثه في الصحيحين، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. تفرد بهذا الحديث عن عبد الله بن خليفة من قدماء التابعين، لا نعلم حاله بجرح ولا تعديل، لكن هذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرًا له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري وحدث به أبو أحمد الزبيري، ويحي بن أبي بكير ووكيع عن إسرائيل.وأخرجه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "السنة والرد على الجهمية" له، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله ابن خليفة، عن عمر رضي الله عنه، ولفظه "إذا جلس الرب على الكرسي، سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد" ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر "إذا جلس الرب على الكرسي" فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها
قلت: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان فلا أدري أخرجه أم لا؟، فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح.
فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم الذين هم سُرُج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟، بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله عز وجل.
قال الإمام أحمد: "لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته لشناعة شنِّعت وإن نَبَت عن الأسماع"
فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث" هـــ


قال الإمام الدشتي: " وقد أخرج هذا الحديث عامة العلماء من أئمة المسلمين في كتبهم التي قصدوا فيها نقل الأخبار الصحيحة وتكلموا على توثقة رجاله ، وتصحيح طريقه ، وممن رواه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو بكر الخلال، وصاحبه أبو بكر عبد العزيز، وأبو عبدالله ابن بطة. وقد رواه أبو محمد الخلال في كتاب الصفات له، ورواه أبو الحسن الدارقطني في كتاب الصفات الذي جمعه، وضبط طرقه، وحفظ عدالة رواته، وكان الدارقطني من أصحاب الحديث من أصحاب الشافعي وأخرجه أبو الحسن ابن الزاغوني في كتاب له، وقال في بعض مصنفاته: «وقد أوردته في غير هذا الكتاب على وجهٍ لا سبيل إلى دفعه ورده إلا بطريق العناد، ولا طُعِنَ في صحته إلا بطريق المكابرة». وقد أخرجه شيخنا أبو عبدالله المقدسي في كتاب المسند الصحيح، ورواه غيرهم من الأئمة والحفاظ"

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا الحديث نقله عامة أئمة الحديث في كتبهم التي قصدوا فيها نقل الأخبار الصحيحة وتكلموا على توثقة رجاله وتصحيح طرقه"

قال ابن القيم: " كَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا وَإِيضَاحِهَا وَكَشْفِهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بِإِشَارَتِهِ وَحَالِهِ.. (فذكر بعض الأحاديث فقال): " وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ الْأَطِيطِ، وَقَوْلُهُ: " «إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّهُ لَيَقْعُدُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ إِذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِهِ» " وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْكُرْسِيِّ سُمِعَ لَهُ أَطِيطُ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ» ، فَاقْشَعَرَّ رَجُلٌ عِنْدَ وَكِيعٍ وَهُوَ يَرْوِيهِ فَغَضِبَ وَقَالَ: أَدْرَكْنَا الْأَعْمَشَ وَسُفْيَانَ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَا يُنْكِرُونَهَا"

أما من احتج به في تفسير آية الاستواء والرد على الجهمية وتثبيت المعتقد فقد قال عادل آل حمدان: "ممن احتج بهذا الحديث عبد بن حميد في التفسير وابن ماجه في التفسير والمروذي في ذكر المقام المحمود والدارمي في الرد على بشر المريسي وابن أبي عاصم في السنة وعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة والطبري في التفسير والخلال في السنة والنجاد والطبراني في السنة وغلام الخلال وأبو الشيخ في العظمة والدارقطني في الصفات وابن بطة في الإبانة والزاغوني في الجزء المستقل والعطار في الفتيا في الاعتقاد والضياء في المختارة والدشتي في إثبات الحد وابن تيمية في الفتاوى والذهبي في العرش" (بالاختصار والتصرف اليسير)

وبهذا كله يتبين أن حديث عبد الله بن خليفة صحيح بغير ريب وأن من ضعفه فقد غلط وغالب من ضعفه من المخالفين لأهل السنة في باب الصفات أمثال الإسماعيلي وابن الجوزي وابن عساكر فهل نترك ما عليه السلف ونتبع أمثال هؤلاء؟

ننتقل إلى دليل آخر وهو قصة مشهورة في مقدم جعفر وأصحابه إلى أرض الحبش

قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: " حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أَسْمَاءُ بنت عُمَيْسٍ "أَنَّ جَعْفَرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَاءَهَا إِذْ هُمْ بِالْحَبَشَةِ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَتْ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ فَتًى مُتْرَفًا مِنَ الْحَبَشَةِ شَابًّا جَسِيمًا مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ، فَطَرَحَ دَقِيقًا كَانَ مَعَهَا، فَنَسَفَتْهُ الرِّيحُ، فَقَالَتْ: أَكِلُكَ إِلَى يَوْمٍ يَجْلِسُ الْمَلِكُ عَلَى الْكُرْسِيِّ فَيَأْخُذ للمظلوم من الظَّالِم"

ورويت القصة من طرق كثيرة ورواها ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي التزم فيه إيراد الصحيح

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"هذا حديث محفوظ" فتح الحميد 1678

فهذا صحابة رسول الله يتناقلون القصة فيها تصريح بلفظ الجلوس فيقرونه ولا ينكره منهم أحد ثم يأتينا هؤلاء المتحذلقة فيقولون هذا تجسيم أو صفة المخلوقين أو هذا عندي منكر إلخ!

واحتج بالأثر ابن تيمية وابن القيم في النونية وسيأتي كلامهما

دليل آخر: ما رواه محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد في تفسير قوله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ : يُقْعِدُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ " وقد ثبت مثله عن الجريري وهو تابعي أيضا

وفيه إثبات جلوس الله تعالى على العرش

وهذا التفسير اتفق عليه سلفنا الأوائل وإن كان بعض المتأخرين من أهل الجفى أنكره لقلة علمه ووثوقه بالسلف

وقد ردوا هذا الأثر عدة أمور نجيب عليها شيئا فشيئا

العلة الأولىقولهم إن في سند الليث وهو ضعيف الحفظ فلا يثبت هذا عن مجاهد

والجواب من وجهين

الوجه الأول إن أهل الجرح والتعديل الذين إليهم في مثله مرجع وعليهم معول وإلى قولهم مذهب اتفقوا على صحته وتلقوه بالقبول فهل يستجيز أحد أن يظن أن أحمد بن حنبل وأبا داود وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد القاسم بن سلام وإبراهيم الحربي وعبد الله بن أحمد بن جنبل وابن أبي شيبة وأبا العباس الدوري وابن جرير الطبري وابن سريج وابن خزيمة والساجي والسراج والدارقطني وغيرهم من الأئمة الذين أثبتوا هذا الأثر وصححوه وقالوا به ونقلوا الاتفاق على مضمونه يجهلون حال الليث بن أبي سليم حتى اكتشفتَ عنه بقراءة كتب نفس هؤلاء الأئمة؟!

بل الأمر أن القواعد التي وُضعت اعتمادا على أقوال هؤلاء السلف لا يجوز أن يعارض بها ما اتفق عليه هؤلاء الأئمة أنفسهم!

فضَعْفُ حفظ الراوي لا يمنع أن يحفظ أفراد الآثار جيدا كما أن أن قوة حفظ الحافظ لا يمنع أنه قد يغلط في أفرادها

قال الإمام البخاري: "كل رجل لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه لا أروي عنه ولا أكتب حديثه"

والمعول في التمييز بين هذه الأنواع إلى هؤلاء الأئمة الأسلاف فما صححوه صححناه وما ضعفوه ضعفناه وما اختلفوا فيه نذهب إلى أقوى أقوالهم وجها

وهذا الأثر مما حفظه وضبطه الليث وعرف الأئمة ذلك ولذلك صححوه وقالوا به

ويزيد الأمر إيضاحا الوجه الثاني وهو أن الحفاظ قد نصوا على أن رواية الليث عن مجاهد في التفسير خاصة صحيحة لأنه روى عنه التفسير من نسخة لا من حفظه

قال ابن حبان "ما سمع التفسير عن مجاهد أحد غير القاسم بن أبى بزة نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبى سليم وابن أبى نجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم ونسخوه ثم دلسوه عن مجاهد"

قال سفيان بن عينة: "لم يسمعه أحد من مجاهد إلا القاسم بن أبي بزة أملاه عليه، وأخذ كتابه الحكم وليث وابن أبي نجيح"

أما اعتراضهم الثاني فقولهم إن الصفات لا تُثبت بقول التابعي ولو ثبت عنه

فالجواب عنه من أوجه

الأول: أن يقال إن مثله لا يقال بالرأي فهو من قبيل المرسل

وقد صرح عدة أهل العلم بذلك

قال ابن القيم: "في ذكر تفسير المقام لأحمد ... ما قيل ذا بالرأي والحسبان
إن كان تجسيما فإن مجاهدا ... هو شيخهم بل شيخه الفوقاني.."

قال الذهبي: "وغضب العلماء لإنكار هذه المنقبة العظيمة التي إنفرد بها سيد البشر ويبعد أن يقول مجاهد ذلك إلا بتوقيف فإنه قال قرأت القرآن من أوله إلى آخره ثلاث مرات على ابن عباس رضي الله عنهما أقفه عند كل آية أسأله فمجاهد أجل المفسرين في زمانه وأجل المقرئين تلا عليه ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن"

قال ابن تيمية: "وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقاً.."


وسئل الفوزان: س:هل من المقام المحمود إجلاس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش هل هذا التفسير صحيح ؟ ج: نعم هذا ورد فيه حديث ، وهو من المقام المحمود ، ليس هو المقام المحمود وحده، ولكن هو من المقام المحمود، من المقام المحمود الشفاعة ومنه إجلاس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، نعم، هذا ثبت وموجود ذكره ابن جرير في تفسيره وغيره، وذكره الامام ابن القيم في النونية كما مر بكم، نعم.

ومراسيل مجاهد قوية تعد حجة مستقلة عند كثير من أهل العلم

قال الذهبي: " وإن صَحَّ الإسنادُ إلى تابعيٍّ متوسِطِ الطبقة ، كمراسيل مجاهد ،وإبراهيم ، والشعبي فهو مرسَل جيّد ، لا بأسَ به ، يقَبلُه قومٌ"

فكيف وقد جاء هذا الأثر من وجه آخر عن تابعي آخر وهو الجريري؟

فكيف وقد اتفق أئمة السلف على القول به وتضليل من أنكره؟

قال الشيخ ابن عثيمين : "والمرسل من أقسام الضعيف؛ لأن الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلّم وبين من رفعه مجهول إلا في المواضع التالية:الأول: إذا علم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلّم ومن رفعه، فيحكم بما تقتضيه حاله.الثاني: إذا كان الرافع له صحابيًّا.الثالث: إذا علم أن رافعه لا يرفعه إلا عن طريق صحابي.الرابع: إذا تلقته الأمة بالقبول."

الثاني: أن تفسير مجاهد من أقوى التفاسير وجله مأخوذ عن ابن عباس

 قال ابن تيمية: وَمُجَاهِدٌ إمَامُ الْمُفَسِّرِينَ ؛ قَالَ الثَّوْرِيُّ : " إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ " وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يَعْتَمِدُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ "

وقال: "الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَسَّرُوا لِلتَّابِعِينَ الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا . وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ"

وقال: "وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ "

الثالث: أن الحديث الذي فيه ضعفٌ إذا تلقي بالقبول واتُفق على معانه يصير حجة

قال الشافعي في حالات قبول المرسل: " وكذلك ان وجد عوام من أهل العلم يفتنون بمثل معنى ما روى عن النبي "

قال أبو عمر بن عبد البر: "وَهَذَا إِسْنَادٌ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ فَإِنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ طَهُورٌ بَلْ هُوَ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ فِي طَهَارَةِ الْمِيَاهِ الْغَالِبَةِ عَلَى النَّجَاسَاتِ الْمُسْتَهْلِكَ ةِ لَهَا وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْمَعْنَى يُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْإِسْنَادِ الْمُنْفَرِدِ"

قال الباجي: " وَالْحَدِيثُ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إسْنَادٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ بِتَقْرِيرِ الشَّرْعِ وَتَصْحِيحِ إسْنَادِهِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَقْوَى"

قال ابن حجر في " النكت " 1/ 494 - 495 "من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث، فإنه يقبل حتى يجب العمل به. وقد صرح بذلك جماعة من أئمة1 الأصول.ومن أمثلته قول الشافعي - رضي الله عنه -: "وما قلت من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم -من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله1، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلافا".وقال في حديث: "لا وصية لوارث": "لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخا لآية الوصية للوارث"

قال شيخ الإسلام: " و هو (أي القطع بالحديث التي تلقي بالقبول) مذهب أهل الحديث قاطبة و مذهب السلف عامة"

]والنقول مسفتادة من بحث الغامدي[

ولنذكر هنا من نقل الإجماع على القول به وتلقيه بالقبول من الأئمة

قال الإمام أحمد: " قد تلقته العلماء بالقبول"

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ , وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يُنْكِرُهُ , وَكَانَ عِنْدَنَا فِي وَقْتٍ مَا سَمِعْنَاهُ مِنَ الْمَشَايِخِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا تُنْكِرُهُ الْجَهْمِيَّةُ , وَأَنَا مُنْكَرٌ عَلَى كُلِّ مَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ , وَهُوَ مُتَّهِمٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "

قال أبو عبيد القاسم بن سلام لما سئل عن هذا الحديث: " هَذِهِ الأَحَادِيثُ حَقٌّ لاَ يُشَكُّ فِيهَا , نَقَلَهَا الثِّقَاتُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ حَتَّى صَارَتْ إِلَيْنَا , نُصَدِّقُ بِهَا , وَنُؤْمِنُ بِهَا عَلَى مَا جَاءَتْ"

قال إسحاق بن راهويه: "يَجب الإِيمَانُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ: مَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ جَهْمِي"

قال الطبري: " ليس في فرق المسلمين من ينكر هذا"

قال الصغاني: " لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ , وَلاَ فِي عَصْرِنَا هَذَا إِلاَّ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِمَا أَحْدَثَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رَدِّ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ , عَنْ لَيْثٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ : يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ , فَهُوَ عِنْدَنَا جَهْمِيُّ , يُهْجَرُ وَنَحْذِرُ عَنْهُ قَدْ أَتَى عَلَيَّ نَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا رَدَّ حَدِيثَ مُجَاهِدٍ إِلاَّ جَهْمِيُّ , وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ الأَئِمَّةُ فِي الأَمْصَارِ , وَتَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ مُنْذُ نَيِّفٍ وَخَمْسِينَ وَمِئَةِ سَنَة.. فَعَلَيْكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ وَالاِتِّبَاعِ"

قال أبو العباس الدوري: " لاَ يَرُدُّ هَذَا إِلاَّ مُتَّهَمٌ"

قال أبو داود السجستاني: "مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ , وَقَالَ : "مَا زَالَ النَّاسُ يُحَدِّثُونَ بِهَذَا , يُرِيدُونَ مُغَايَظَةَ الْجَهْمِيَّةِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ يُنْكِرُونَ أَنَّ عَلَى الْعَرْشِ شَيْء"

قال إبراهيم الحربي: " ما ينكر هذا إلا أهل البدع"

وقال إبراهيم الحربي يَوْمًا , وَذَكَرَ حَدِيثَ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ , فَجَعَلَ يَقُولُ : هَذَا حَدَّثَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَكَمْ تَرَى كَانَ فِي الْمَجْلِسِ , عِشْرِينَ أَلْفًا , فَتَرَى لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قَامَ إِلَى عُثْمَانَ , فَقَالَ لاَ تُحَدِّثْ بِهَذَا الْحَدِيثِ , أَوْ أَظْهَرَ إِنْكَارَهُ , تَرَاهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثَمَّ إِلاَّ وَقَدْ قُتِلَ , قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ , وَصَدَقَ , مَا حُكْمُهُ عِنْدِي إِلاَّ الْقَتْلُ"

قال الخلال: " رَدَّ (أي الجهمي) هَذَا الْحَدِيثَ وَخَالَفَ الأَئِمَّةَ وَأَهْلَ الْعِلْمِ , وَانْسَلَخَ مِنَ الدِّينِ"

قال النجاد: "وعلى ذلك من أدركتُ من شيوخنا أصحاب أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، فإنّهم مُنكِرون على من رَدّ هذه الفضيلة، ولقد بيّن اللهُ ذلك على ألسِنَةِ أهل العلم، على تقادم الأيامِ، فتلقَّاهُ النَّاسُ بالقبولِ، فلا أحد يُنكرُ ذلك، ولا يُنازِعُ فيه"

قال الآجري: " وَأَمَّا حَدِيثُ مُجَاهِدٍ فِي فَضِيلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَفْسِيرُهُ لِهَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ يُقْعِدُهُ] عَلَى الْعَرْشِ , فَقَدْ تَلَقَّاهَا الشُّيُوخُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّقْلِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , تَلَقَّوْهَا بِأَحْسَنِ تَلَقٍّ , وَقَبِلُوهَا بِأَحْسَنِ قَبُولٍ , وَلَمْ يُنْكِرُوهَا , وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ رَدَّ حَدِيثَ مُجَاهِدٍ إِنْكَارًا شَدِيدًا وَقَالُوا: مَنْ رَدَّ حَدِيثَ مُجَاهِدٍ فَهُوَ رَجُلُ سُوءٍ قُلْتُ: فَمَذْهَبُنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَبُولُ مَا رَسَمْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ , وَقَبُولُ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ , وَتَرْكُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاظَرَة ِ فِي رَدِّهِ"

قال ابن بطة وهو يذكر عقائد أهل السنة: " وَيَجْلِسُ مَعَ رَبِّهِ عَلَى العَرْشِ وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرَهُ.. وَهَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ اَللَّيْثِ عَنْهُ"

قال شيخ الإسلام الأنصاري الهوري في تفسيره: " وجاء عن ليث عن مجاهد فى قوله عز و جل عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال يجلسه العرش". اعلم ان أصحاب الحديث الذين هم نقلة الاخبار و خزنة الآثار اتفّقوا على ان هذا التأويل صحيح و أن اللَّه عز و جل كان قبل خلقه الاشياء قائما بذاته ثم خلق الاشياء من غير حاجة له إليها بل إظهارا لقدرته و حكمته ليعرف وجوده وتوحيده وكمال علمه وقدرته بظهور أفعاله المتقنة المحكمة وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء و هو الآن مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه وإن لم يكن قبل ذلك مستويا عليه وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربّوبيةّ أو مخرجا ايّاه عن صفة العبوديةّ بل هو رفع لمحله و إظهار لشرفه و تفضيل له على غيره من خلقه"

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول "

وقال: "فَقَدْ حَدَثَ الْعُلَمَاءُ الْمَرْضِيُّونَ وَأَوْلِيَاؤُهُ الْمَقْبُولُونَ : أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْلِسُهُ رَبُّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَهُ . رَوَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضِيلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ؛ فِي تَفْسِيرِ : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } وَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مَرْفُوعَةٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعَةٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَهَذَا لَيْسَ مُنَاقِضًا لِمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ وَيَدَّعِيه لَا يَقُولُ إنَّ إجْلَاسَهُ عَلَى الْعَرْشِ مُنْكَرًا وَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْجَهْمِيَّة وَلَا ذكره فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُنْكَرٌ"

قال ابن القيم: "في ذكر تفسير المقام لأحمد ... ما قيل ذا بالرأي والحسبان
إن كان تجسيما فإن مجاهدا ... هو شيخهم بل شيخه الفوقاني
وقد أتى ذكر الجلوس به وفي ... أثر رواه جعفر الرباني
أعني ابن عم نبينا وبغيره ... أيضا والحق ذو التبيان
والدارقطني الإمام يثبت الآثار ... في ذا الباب غير جبان
وله قصيد ضمنت هذا وفيها ... لست للمروي ذا نكران
وجرت لذلك فتنة في وقته ... من فرقة التعطيل والعدوان
والله ناصر دينه وكتابه ... ورسوله في سائر الأزمان
لكن بمحنة حزبه من حربه ... ذا حكمة مذ كانت الفئتان"

وكلام أهل العلم في تثبيت أثر مجاهد والقول به أكثر مما ذكرته بكثير لكن فيما ذُكر كفاية إن شاء الله

وقد ذكر عادل آل حمدان أنه جمع أسماء القائلين به من الأولين والآخرين ففاق عددها مئة نفس ولم أحفظ عن أحد من المتقدمين رده إنما تكلم فيه بعض المتأخرين ولا يقبل قولهم بعد انعقاد الإجماع في القرون الثلاثة الأولى

وإن قال المتحذلق: أولم يقل كثير من أهل العلم أن المقام المحمود شفاعة؟

قيل له: هذا اختلاف تنوع في التفسير وليس اختلاف تضاد

قال محمد بن نصر: "سمعت إسحاق يقول في قوله (وأولي الأمر منكم) قد يمكن أن يكون تفسير الآية على أولي العلم وعلى أمراء السرايا لأن الآية الواحدة يفسرها العلماء على أوجه وليس ذلك باختلاف وقد قال سفيان بن عيينة ليس في تفسير القرآن اختلاف إذا صح القول في ذلك وقال أيكون شيء أظهر خلافا في الظاهر من الخنس قال ابن مسعود هي بقر الوحش وقال علي هي النجوم قال سفيان وكلاهما واحد لأن النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل والوحشية إذا رأت إنسيا خنست في الغيضان وغيرها إذا لم تر إنسيا ظهرت قال سفيان فكل خنس قال إسحق وتصديق ذلك ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم في الماعون يعني أن بعضهم قال هو الزكاة وقال بعضهم عارية المتاع قال وقال عكرمة الماعون أعلاه الزكاة وعارية المتاع منه قال إسحاق وجهل قوم هذه المعاني فإذا لم توافق الكلمة الكلمه قالوا هذا اختلاف وقد قال الحسن وذكر عنه الاختلاف في نحو ما وصفنا فقال إنما أتى القوم من قبل العجمة"

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان:أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند..الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى [لفظ الخبز] فأرى رغيفًا، وقيل له: هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده.." ثم ضرب الأمثلة الكثيرة لذلك انظر المقدمة في أصول التفسير 13-14 "

إذا تبين هذا فكذلك هاهنا فإنه لا تضاد بين أن يكون المقام المحمود شفاعة وإجلاسا

 قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ دَفْعُ الْحَدِيثِ بَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ فِي رَدِّهِ مِمَّا أَجَازَهُ الْعُلَمَاءُ مِمَّنْ قَبْلَهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا , وَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ ذَكَرْتُ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ , إِلاَّ وَقَدْ سَلَّمَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ , وَكَانُوا أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْجُهَّالِ , وَزَعَمَ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ لاَ مَقَامَ غَيْرُهُ. اهــ

قال ابن جرير الطبري: وهذا ليس مناقضا لما استفاضت به الأحاديث من أن المقام المحمود هو الشفاعة باتفاق الأئمة من جميع من ينتحل الإسلام ويدعيه

وقال الإمام الآجري:"اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الله عز وجل أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم ، من الشرف العظيم والحظ الجزيل ما لم يعطه نبيا قبله مما قد تقدم ذكرنا له ، وأعطاه المقام المحمود يزيده شرفا وفضلا ، جمع الله الكريم له فيه كل حظ جميل من الشفاعة للخلق والجلوس على العرش ، خص الله الكريم به نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأقر له به عينه. اهــ

قال القصاب في تفسيره: " وتفسير مجاهد من رواية ليث عنه لا يقوم للمعتزلة والجهمية والتفسير الذي روي عنه أنه قال هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي لا يدفع تفسير مجاهد وجاز أن تكون شفاعته في ذلك الموضع وكل موضع يحل به المرء فهو مقامه"

قال صاحب رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز مجيبا على هذا الاعتراض: "قلت: المقام المحمود مطلقٌ في كل ما يجب الحمد للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أنواع الكرامات والشفاعة، والقعود على العرش نوعان مما يتناوله الإطلاق، فحينئذ لا منافاة بين القولين، ولا مناقضة بين الروايتين"

قال السخاوي: "وعلى تقدير صحة هذه الأقوال لا تنافي بينها لإحتمال أن يكون الإجلاس علامة الأذن في الشفاعة "

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: " قيل الشفاعة العظمى، وقيل إِنه إِجلاسه معه على العرش كما هو المشهور من قول أَهل السنة.والظاهر أَن لا منافاة بين القولين، فيمكن الجمع بينهما بأَن كلاهما من ذلك. والإِقعاد على العرش أَبلغ"

قال الفوزان: "ليس هو المقام المحمود وحده، ولكن هو من المقام المحمود، من المقام المحمود الشفاعة ومنه إجلاس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش"

والله تعالى أعلم

- ومما يستأنس به في هذا الباب أثر ابن عباس الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة

قال الدارقطني: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، قَالَ: «الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ قَدْرَ الْعَرْشِ شَيْءٌ» وهذا صحيح عن ابن عباس وروي عن أبي موسى وغيرهم

وهذا ظاهر في تأييد مسألة الجلوس

وهذا الأثر اتفق أهل السنة على صحته والقول به خلافا لبعض المعاصرين الذين زعموا أنه قد يكون من الإسرائيليات!!

قال الدارقطني: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، ثنا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ، وَذَكَرَ الْبَابَ الَّذِي، يَرْوِي فِيهِ الرُّؤْيَةَ وَالْكُرْسِيَّ وَمَوْضِعَ الْقَدَمَيْنِ، وَضَحِكِ رَبِّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، وَأَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ، وَأَنَّ جَهَنَّمَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ فِيهَا فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَأَشْبَاهَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صِحَاحٌ، حَمَلَهَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وهِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ لَا نَشُكُّ فِيهَا، وَلَكِنْ إِذَا قِيلَ كَيْفَ وَضَعَ قَدَمَهُ وَكَيْفَ ضَحِكَ؟ قُلْنَا لَا يُفَسَّرُ هَذَا وَلَا سَمِعْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهُ" والسند صحيح

سئل أبو زرعة الرازي عن هذا الأثر فأجاب: "صحيح ولا نفسر نقول كما جاء كما هو الحديث" (توحيد ابن منده)

قال حرب الكرماني في عقيدته التي نقل عليها اتفاق أئمة الأمصار وشيوخه كأحمد والحميدي وسعيد بن منصور: "والكرسي موضع القدمين"

قال ابن أبي زمنين في أصول السنة: "وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ اَلسُّنَّةِ: أَنَّ اَلْكُرْسِيَّ بَيْنَ يَدَيْ اَلْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَوْضِعُ اَلْقَدَمَيْنِ"

ومما تتأيد به هذه المسألة أثر محمد بن الكعب الذي تكلم به في حضور عمر بن عبد العزيز

قال الطبري: " حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثنا حَرْمَلَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَقْبَلَ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ِ، قَالَ: فَيُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ السَّلَامَ، قَالَ الْقُرَظِيُّ: وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {سَلَّامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] فَيَقُولُ: سَلُونِي، فَيَقُولُونَ: مَاذَا نَسْأَلُكَ، أَيْ رَبِّ؟ قَالَ: بَلْ سَلُونِي، قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَيْ رَبِّ رِضَاكَ، قَالَ: رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي، قَالُوا: يَا رَبِّ وَمَا الَّذِي نَسْأَلُكَ فَوَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ وَارْتِفَاعِ مَكَانِكَ، لَوْ قَسَمْتَ عَلَيْنَا رِزْقَ الثَّقَلَيْنِ لَأَطْعَمْنَاهُ مْ، وَلَأَسْقَيْنَا هُمْ، وَلَأَلْبَسْنَا هُمْ وَلَأَخْدَمْنَا هُمْ، لَا يُنْقِصْنَا ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ: إِنَّ لَدَيَّ مَزِيدًا، قَالَ: فَيَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ فِي دَرَجِهِمْ حَتَّى يَسْتَوِيَ فِي مَجْلِسِهِ"

ثم أسنده من وجه آخر

قال أبو جعفر الخليفي: " الشاهد قوله رحمه الله : "فيفعل الله ذلك بهم في درجتهم حتى يستوي في مجلسه" ، والسند رجاله ثقات إلا سليمان بن حميد المزني وثقه ابن حبان، قال الذهبي في تاريخ الإسلام :" سليمان بن حميد المزني. عن أبيه عن أبي هريرة وعن محمد بن كعب القظي وعامر بن سعد، وعنه الليث بن سعد وضمام بن إسماعيل وجماعة، مات بمصر سنة خمس وعشرين ومائة" فرواية جماعة من الثقات عنه ، مع توثيق ابن حبان يجعل خبره مقبولاً في خبر مقطوع"

قال الدارمي: " حدثنا عبد الله بن صالح المصري قال حدثني حرملة ابن عمران عن سليمان بن حميد قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز قال فإذا فرغ الله عز و جل من أهل الجنة والنار أقبل الله عز و جل في ظلل من الغمام والملائكة البقرة : فسلم على أهل الجنة في أول درجة فيردون عليه السلام قال القرظي وهذا في القرآن سلام قولا من رب رحيم يس : 58 فيقول سلوني قال ففعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه ثم يأتيهم التحف من الله تحملها الملائكة إليهم "
قال أبو سعيد فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا لا ينكرها منهم أحد ولا يمتنع من روايتها حتى ظهرت هذه العصابة فعارضت آثار رسول الله برد وتشمروا لدفعها بجد" هـــــ

- وكذلك أثر الجريري المذكور وهو من أعيان التابعين البصريين

قَالَ المروذي : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَكْرَاوِيُّ مِنْ وَلَدِ أَبِي بَكْرَةَ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَيْفٌ السَّدُوسِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ قَالَ : (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جِيءَ بِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُجْلِسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ) , قَالَ : فَقُلْتُ : يَا أَبَا مَسْعُودٍ , فَإِذَا أَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهُوَ مَعَهُ , قَالَ : وَيْلَكَ , مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا قَطُّ أَقَرَّ لِعَيْنَيَّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ , حِينَ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ"

وقد ذركنا والحمد لله أسماء طوائف عظيمة من الأئمة الذين أثبتوا الجلوس الله بل ومنهم من نقل الإجماع على ذلك

ونزيد هنا بعض أسماء القائلين به من الأئمة سلفا وخلفا

- قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي: " وَأَمَّا دَعْوَاكَ: أَنَّ تَفْسِيرَ "الْقَيُّومِ" الَّذِي لَا يَزُولُ مِنْ مَكَانِهِ وَلَا يَتَحَرَّكُ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْكَ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَّا بِأَثَرٍ صَحِيحٍ، مَأْثُورٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَوِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ الْقَيُّومَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَحَرَّكُ إِذَا شَاءَ، ويهبط ويرتفع إِذا شَاءَ، وينقبض وَيَبْسُطُ وَيَقُومُ وَيَجْلِسُ إِذَا شَاءَ؛ لِأَنَّ أَمَارَةُ مَا بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ التَّحَرُّكَ"

- منهم ابن أبي عاصم في السنة إذ احتج بالآثار الواردة في المقام المحمود

- منهم الطبراني في كتابه السنة

قال الذهبي: " قال الحافظ أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد في كتاب "السنة" له: "باب ما جاء في استواء الله تعالى على عرشه، وأنه بائن من خلقه". ثم روى حديث أبي رزين "قلت: يا رسول الله أين كا ربنا؟ ". وحديث عبد الله بن خليفة عن عمر. وحديث الأوعال وأن العرش على ظهورهن والله فوقه. وغير ذلك، إلى أن قال: حدثنا محمد بن يحيى بن المنذر، حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 2، قال: "يجلسه معه على العرش" هـ

- منهم الدارقطني

قال أبو يعلى: " وقد أنشد أَبُو الحسن الدارقطني شعرا يدل عَلَى صحة هَذِهِ الأحاديث عنده وَهُوَ حافظ وقته، فَقَالَ:
حديث الشفاعة فِي أحمد ... إِلَى أحمد المصطفى
نسنده أما حديث بإقعاده ... عَلَى العرش أَيْضًا فلا نجحده
أمروا الحديث عَلَى وجهه ... وَلا تدخلوا فِيهِ مَا يفسده
وَلا تنكروا أَنَّهُ قاعد ... وَلا تجحدوا أَنَّهُ يقعده"

وقد أنشد أَبُو طالب بْن العشاري هَذِهِ الأبيات عَن الدارقطني" ه والعشاري ثقة سمع الدارقطني فثبت إسناده عنه

- قال الإمام أبو عبد الله بن حامد الحنبلي: "الاستواء بمعنى أنه قاعد على عرشه وهو قول عبد الوهاب (الوراق) وقد قد أثنى عليه أحمد وقال هو إمام. وذلك أن إطلاق الاستواء في اللغة ما ذكرنا فيجب أن يحمل عليه"

-وقد أثبته القاضي أبو يعلى الحنبلي في إبطال التأويلات ص.601

- وقد أثبته الحافظ المجدد أبو القاسم التيمي الشافعي صاحب الحجة في بيان المحجة

قال أبو موسى المديني: سألت أبا القاسم إسماعيل بن محمد يوماً، وقلت له: أليس قد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: " استوى " قعد؟ قال: نعم.قلت له: يقول إسحاق بن راهويه: إنما يوصف بالقعود من يمل القيام.فقال: لا أدري أيش يقول إسحاق" تاريخ الإسلام

التنبيه: وللعلم فهذا ليس ثابتا عن إسحاق إنما يذكره بعض الكلابية المتأخرين في كتبهم بصيغة "بلغني أن إسحاق قال.." وهذا لا شيء ويخالف منصوصه الصريح في إثبات أثر مجاهد ونقل الإجماع عليه

- قال شيخ الإسلام ابم تيمية رضي الله عنه: "وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو قعود البدن ، فما جائت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ القعود و الجلوس في حق الله تعالى -كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهما- أولى ألا يماثل صفات أجسام العباد" شرح حديث النزول

وقال في بيان التلبيس: "جاءت الأحاديث بثبوت المماسة كما دل على ذلك القرآن وقاله أئمة السلف وهو نظير الرؤية وهو متعلق بمسألة العرش وخلق آدم يده وغير ذلك من مسائل الصفات وإن كان قد نفاه طوائف من أهل الكلام والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم "

وقال شيخ الإسلام:"من أطلقه (أي الجلوس) فبناء على ما جاء عن النبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أعيان الأسلاف فإن من أطلقه فإنما اتبع ف ذلك الأثر ولا شك أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته لا في صفاته لا في أفعاله واتفاق اللفظين لا يوجب اتفاق الحقيقتين كما في سائر ألفاظ الصفات من النزول والمجيء والفرح والضحك وغير ذلك"

وقد سبق كلام شيخ الإسلام في تثبيت أثر مجاهد والقول به

وسئل شيخ الإسلام عن أحاديث الجلوس فأجاب بثبوتها ورواية السلف لها (فتح الحميد)

وقال شيخ الإسلام عند ذكر حديث الأطيط: " وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارًا للجهمية وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعًا لما فيه من ذكر الأطيط كما فعل أبو القاسم المؤرخ ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن جبير ثم يقول بعضهم ولم يقل ابن إسحاق حدثني فيحتمل أن يكون منقطعًا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع أن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولاً بين أهل العلم خالفًا عن سالف ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية مُتَلَقين لذلك بالقبول" بيان التلبيس ج3

ولشيخ الإسلام مؤلف مستقل في بيان صحة حديث ابن خليفة وألفاظه المحفوظة سبق ذكره

- وقد أثبته ابن القيم كذلك

قال في مختصر الصواعق: "إنه لو كانت فوقيته سبحانه مجازا لا حقيقة لها لم يتصرف في أنواعها وأقسامها ولوازمها، ولم يتوسع فيها غاية التوسع، فإن فوقية الرتبة والفضيلة لا يتصرف في تنويعها إلا بما شاكل معناها، نحو قولنا: هذا خير من هذا وأفضل وأجل وأعلى قيمة ونحو ذلك. وأما فوقية الذات فإنها تتنوع بحسب معناها، فيقال فيها استوى وعلا وارتفع، وصعد ويعرج إليه كذا ويصعد إليه وينزل من عنده، وهو عال على كذا ورفيع الدرجات، وترفع إليه الأيدي، ويجلس على كرسيه"

وقد سبق نقل إثباته الجلوس وأثر مجاهد من النونية

وقال في النوينة أيضا: " واذكر حديثا لابن إسحاق الرضى ... ذاك الصدوق الحافظ الرباني
في قصة استسقائهم يستشفعو ... ن إلى الرسول بربه المنان
فاستعظم المختار ذاك وقال شأ ... ن الله رب العرش أعظم شأن
الله فوق العرش فوق سمائه ... سبحان ذي الملكوت والسلطان
ولعرشه منه أطيط مثل ما ... قد أط رحل الراكب العجلان
لله ما لقي ابن إسحاق من ... الجهمي إذ يرميه بالعدوان"

وقال في النونية وهو يسوق المناظرة بين السني والجهمي:
" وزعمت أن محمدا يوم اللقا*** يدنيه رب العرش بالرضوان
حتى يرى المختار حقا قاعدا*** معه على العرش الرفيع الشان
وزعمت أن لعرشه أطا به*** كالرحل أطّ براكب عجلان"

وقال في مختصر الصواعق: " كَانَ (أي النبي) أَفْصَحَ النَّاسِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا وَإِيضَاحِهَا وَكَشْفِهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بِإِشَارَتِهِ وَحَالِهِ.. (فذكر بعض الأحاديث فقال): " وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ الْأَطِيطِ، وَقَوْلُهُ: " «إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّهُ لَيَقْعُدُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ إِذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِهِ» " وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْكُرْسِيِّ سُمِعَ لَهُ أَطِيطُ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ» ، فَاقْشَعَرَّ رَجُلٌ عِنْدَ وَكِيعٍ وَهُوَ يَرْوِيهِ فَغَضِبَ وَقَالَ: أَدْرَكْنَا الْأَعْمَشَ وَسُفْيَانَ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَا يُنْكِرُونَهَا" "

وأورد في مختصر الصواعق أثر خارجة بن مصعب مقرا به محتجا به على الجهمية ص. 1303

وقال في اجتماع الجيوش الإسلامية: " وذكر شيخ الإسلام من رواية الضحاك بن مزاحم عنه قال إن الله خلق العرش أول ما خلق فاستوى عليه قلت وهذا تفسير الضحاك وفي تفسير السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس الرحمن على العرش استوى قال قعد "

وقال في بدائع الفوائد: "فائدة إقعاد الرسول على العرش

قال القاضي صنف المروذي كتابا في فضيلة النبي وذكر فيه إقعاده على العرش قال القاضي وهو قول ابي داود وأحمد بن أصرم ويحيى بن ابي طالب وأبى بكر بن حماد وأبى جعفر الدمشقي وعباس الدوري وإسحاق بن راهوية وعبد الوهاب الوراق وإبراهيم الأصبهانى وإبراهيم الحربي وهارون بن معروف ومحمد بن إسماعيل السلمي ومحمد بن مصعب بن العابد وأبي بن صدقة ومحمد بن بشر بن شريك وأبى قلابة وعلي بن سهل وابى عبد الله بن عبد النور وأبي عبيد والحسن بن فضل وهارون بن العباس الهاشمي وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ومحمد بن عمران الفارسي الزاهد ومحمد بن يونس البصري وعبد الله ابن الإمام والمروذي وبشر الحافي انتهى
قلت وهو قول ابن جرير الطبري وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير وهو قول أبي الحسن الدارقطني ومن شعره فيه
حديث الشفاعة عن أحمد ... إلى أحمد المصطفى مسنده
وجاء حديث بإقعاده ... على العرش أيضا فلا نجحده
أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده
ولا تنكروا أنه قاعده ... ولا تنكروا أنه يقعده"

- منهم ابن المحب في كتاب الصفات المخطوط كما ذكره عادل آل حمدان

- منهم الذهبي في كتاب العرش الذي ألفه لما كان متحمسا في اتباع العقيدة السلفية وانتصار ابن تيمية ثم تراجع عن ذلك في العلو ثم تراجع عن كتاب العلو نفسه والله المستعان

- منهم الشيخ سليمان بن سحمان النجدي


قال ابن سحمان في كتابه ضياء الشارق
: "وأما قوله: (يفصح عن استواء الله تعالى على العرش بمثل الجلوس عليه).
فالجواب أن نقول: قد جاء الخبر بذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ضرب الله الحق على لسانه، كما رواه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "السنة" له في الرد على الجهمية قال: حدثني أبي وعبد الأعلى بن حماد النرسي قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر قال: "إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
وهذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرراً له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري، وحدث به أبو أحمد الزبيري ومحمد بن أبي بكر ووكيع عن إسرائيل، ورواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن حنبل أيضاً عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه : إذا جلس الرب على الكرسي. فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذا الحديث ولا ينكرونه.
قلت: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي.
وإذا كان هؤلاء الأئمة أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم، الذين هم سرج الهدى، ومصابيح الدجى، قد تلقوا هذا الحديث بالقبول، وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره، ونتحذلق عليهم، بل نؤمن به.
قال الإمام أحمد: لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته بشناعة شنعت وإن نبت عنه الأسماع.
فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "الكافية الشافية":
واذكر كلام مجاهد في قوله ... أقم الصلاة وتلك في سبحان
في ذكر تفسير المقام لأحمد ... ما قيل ذا بالرأي والحسبان
إن كان تجسيماً فإن مجاهداً ... هو شيخهم بل شيخه الفوقاني
ولقد أتى ذكر الجلوس به وفي ... أثر رواه جعفر الرباني
أعني ابن عم نبينا وبغيره ... أيضاً أتى والحق ذو تبيان
والدارقطني الإمام يثبت الـ ... آثار في ذا الباب غير جبان
وله قصيد ضمنت هذا وفيـ ... ـها لست للمروي ذا نكران
وجرت لذلك فتنة في وقته ... من فرقة التعطيل والعدوان
والله ناصر دينه وكتابه ... ذا حكمه مذ كانت الفئتان
وهذا نص الأبيات التي أشار إليها ابن القيم رحمه الله تعالى من كلام الدارقطني رحمه الله تعالى:
"حديث الشفاعة في أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسنده
وأما حديث بإقعاده ... على العرش أيضاً فلا نجحده
فلا تنكروا أنه قاعد ... ولا تنكروا أنه يقعده
أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده"
فإذا ثبت هذا عن أئمة أهل الإسلام، فلا عبرة بمن خالفهم من الطغام أشباه الأنعام"

وقال في كتابه الصواعق: " ومن أعظم ما خصه الله به من الفضائل المقام المحمود الذي يغبطه به النبيون، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله على قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: آية 79] قال: يقعده معه على العرش"

- منهم الشيخ عبد الرحمن السعدي

قال في الأجوبة عن الأسئلة الكويتية وذكر أثر خارجة وحديث عبد الله بن خليفة: " ولكنّ استشكالكم إنّما هو ممّا في هذه الآثار في ذكر صفات الله والتّصريح بالجلوس في مسألة الإستواء ، وإذا جلس على كرسيّه .....الخ فهذه التّصريحات يزول الإشكال عنها إذا بُنِيَت على الأصل الثّابت في الكتاب والسُّنَّة وإجماع سلف الأمّة أنّ الله ليس كمثله شيء ، وأنّه يجب إثبات جميع ماورد في الكتاب والسُّنَّة من صفات الباري وأفعاله الثّابتة على وجه يليق بعظمة الباري ، وأنّ الكلام على الصفات المعنوية والفعلية يتبع الكلام على الذات ، فكما أجمع الناس على أنّ لله ذاتًا لاتشبهها الذّوات فله صفات لا تشبهها الصّفات ، فكما أنّنا نثبت لله العلم والقدرة والرحمة والحكمة ونحوها من الصفات ، ونعلم أنّها صفات عظيمة لاتشبهها صفات خلقه ، لاعلمهم ولاقدرتهم ولارحمتهم ولاحكمتهم ، فكذلك نثبت أنّه استوى على عرشه استواء يليق بجلاله سواء فُسِّر ذلك بالإرتفاع أو بعلوّه على عرشه ، أو بالإستقرار أو بالجلوس .فهذه التّفاسير واردة عن السلف ، فنُثْبِتْ لله على وجه لايماثله ولايشابهه فيها أحد ، ولامحذور في ذلك إذا قرنَّا بهذا الإثبات نفي مماثلة المخلوقات"

- منهم الشيخ إسماعيل الأنصاري

قال عبد العزيز بن فيصل الراجحي: "وكان شيخنا الكبير العلامة: إسماعيل بن محمد بن ماحي الأنصار (ت1417هـ) رحمه الله، يستدِلّ بأبيات الدارقطني ويذكرُها، ويحتجُّ بها، ولها، إذا عرضت هذه المسألة"

-منهم عبد العزيز بن فيصل الراجحي

قال في كتابه قدوم كتائب الجهاد: " قال خارجة: وهل يكون الاستواء إلا بجلوس" وهذا كلام صحيح لا غبار عليه نعم وهل يكون الاستواء إلا بجلوس وهذا من معاني الاستواء فإن الاستواء في اللغة له عدة معان ويعرف كل معنى بحسب اللفظ والسياق ومن سياق الآية عرفنا أن المقصود بقوله( تعالى الرحمن على العرش استوى)أي على العرش علا وجلس ولكن على ما يليق بجلاله جل وعلا ولا نكيف ذل ولا نؤوله ولا نعطله ولا نمثله وهذا معنى قول الامام مالك رحمه الله((الاستواء معلوم)أي نعرفه من لغتنا وهو العلو والارتفاع والجلوس والاستقرار)"

- منهم ناصر الفهد

قال في رده على الشاطبي: " فالحاصل أن صفة القعود والجلوس كان السلف يذكرونها ولا ينكرونها لأن هذا سبيل الصفات كلها فإنها تثبت على ما يليق بالله سبحانه وتعالى"

وهؤلاء المذكورون لم أقصد في هذا الفصل استقصاء أسماء القائلين به إنما ضربتهم كمثل للقائلين به من جميع الطبقات

درء الاعتراضات

الاعتراض الأول: قولهم: لو أثبتنا الجلوس لكان تشبيها وتجسيما!


والجواب عن هذا الكلام القبيح أن يقال:

الوجه الأول: إذا كان إثبات الجلوس لله من غير تمثيل ولا تحريف تشبيها وتجسيما فمعناه أن أصحاب النبي والتابعين وأئمة السلف الذين أثبتوه كانوا مشهبة مجسمة وضلوا في فهم ما يجب على الله وما يتنزه عنه حتى جاء هؤلاء الجهمية الأشعرية فقوموا هذا النقص

وهذا لا يلتزم به إلا بمتدع ضال

الوجه الثاني أن إثبات الجلوس على الوجه يليق بجلال الله وعظمته لا يستلزم تبشيهه بالمخلوقين كما هو في سائر الصفات

قال شيخ الإسلام ابم تيمية رضي الله عنه: "وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو قعود البدن ، فما جائت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ القعود و الجلوس في حق الله تعالى -كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهما- أولى ألا يماثل صفات أجسام العباد" شرح حديث النزول

وقال شيخ الإسلام: "من أطلقه (أي الجلوس) فبناء على ما جاء عن النبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أعيان الأسلاف فإن من أطلقه فإنما اتبع ف ذلك الأثر ولا شك أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته لا في صفاته لا في أفعاله واتفاق اللفظين لا يوجب اتفاق الحقيقتين كما في سائر ألفاظ الصفات من النزول والمجيء والفرح والضحك وغير ذلك"

قال ابن قتيبة وهو يرد على الجهمية في الصورة: "والذي عندي والله تعالى أعلم أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين"

وكذلك الجلوس ليس بأعجب من النزول والضحك والرضا والتطوف والإتيان والمجئ وغير ذلك من الصفات الثابتة في الكتاب والسنة ونحن نؤمن بالجميع ولا نعارض ولا نحرف ولا نمثل

الوجه الثالث أن لفظ الجسم لفظ مجمل لم يأت عن سلف الأمة وأئمتها إثباته ولا نفيه إنما ينفيه بغير تفصيل الجهمية بطوائفهم كالأشعرية والماتريدية وأمثالهم

ولذا لم يذم أحد من السلف أحدا بأنه مجسم

قال شيخ الإسلام في بيان التلبيس: "ولم يذم أحد من السلف أحدًا بأنه مجسم، ولا ذم المجسمة، وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره، وذموا أيضًا المشبهة الذين يقولون صفاته كصفات المخلوقين"

الاعتراض الثاني: قولهم: أقوال الصحابة لا تثبت بها الصفات!!

والجواب أن يقال: من قال إنا لا نقبل آثار الصحابة في باب الصفات فقد خالف أهل السنة والجماعة قاطبة

قال عبد الله بن المبارك: "صفة أهل السنة الأخذ بكتاب الله وأحاديث رسول الله وأحاديث الصحابة وترك الرأي والقياس فهذا الذي أدركت عليه علمائنا القدماء"

قال بشر الحافي: "ومن صفة أهل السنة الأخذ بكتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك الرأي والابتداع"

قال الإمام أحمد في أصول السنة: "أصُول السّنة عندنَا التَّمَسُّك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاقتداء بهم"

قال ابن خزيمة: "ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِثْبَاتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى رَبَّهُ، وَبِيَقِينٍ يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ أَنَّ هَذَا مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْعُقُولِ، وَالْآرَاءِ وَالْجِنَانِ وَالظُّنُونِ، وَلَا يُدْرَكُ مِثْلُ هَذَا الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ، إِمَّا بِكِتَابٍ أَوْ بِقَوْلِ نَبِيٍّ مُصْطَفًى، وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ» بِرَأْيٍ وَظَنٍّ، لَا وَلَا أَبُو ذَرٍّ، لَا وَلَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ"

فهذا نقل الإجماع على قبول آثار الصحابة في مثل هذا بغض النظر عن المسألة نفسها

قال الأجري: "اعلموا وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل أن أهل الحق يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه عز وجل ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع"

قال السجزي: "ولا يقبل من أحد قولاً (أي في باب الصفات الذي يتكلم عنه) إلا وطالبه على صحته بآية محكمة، أو سنة ثابتة، أو قول صحابي من طريق صحيح"

وقال: "فأهل السنة : هم الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح رحمهم الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم فيما لم ثبت فيه نص في الكتاب ولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم رضي الله عنهم أئمة وقد أمرنا باقتداء أثارهم واتباع سنتهم وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى إقامة برهان والأخذ بالسنة واعتقادها مما لا مرية فيه وجوبه"

قال ابن عبد البر: "مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَقْلِ الثِّقَاتِ وَجَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَصَحَّ عَنْهُمْ فَهُوَ عِلْمٌ يُدَانُ بِهِ، وَمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ فَبِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ وَمَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَاتِهِ عَنْهُمْ سَلِمَ لَهُ، وَلَمْ يُنَاظَرْ فِيهِ كَمَا لَمْ يُنَاظَرُوا"

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية: "القول الشامل في جميع هذا الباب : أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون"

قال السيوطي الأشعري: "التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم الرفع بإجماع أهل الحديث"

قال الداني: "قد يحكى الصحابي - رضي الله عنه - قولا يوقفه، فيخرجه أهل الحديث في المسند، لامتناع أن يكون الصحابي - رضي الله عنه - قاله إلا بتوقيف. كما روى أبو صالح السمان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يجدن عرف الجنة ... ".الحديث. لأن مثل هذا لا يقال: بالرأي، فيكون من جملة المسند"

والنصوص الحاثة على اتباع الصحابة عامة لا تفرق بين الأصول والفروع فمن أتى بالتفريق لزمه الدليل وبالله التوفيق

الاعتراض الثالث: قولهم: هذا التفسير يخالف تفسير الاستواء بالعلو

والجواب أن يقال: ثالاثا: تفسير الاستواء بجزء من أجزاء معانيه لا يمنع تفسيره بجزء آخر ولا ينازع في هذا إلا جاهل وقد سبق بيان اختلاف التنوع في الفتسير في رد شبهتهم في المقام المحمود بأن هناك من فسره بالشفاعة

ويقال أيضا: غالب مخالفينا ممن ينتسب إلى السلف يقر بتفاسير الاستواء الأربعة (ارتفع - علا - صعد - استقر)

فهل يجعل قول بعض السلف ممن فسر الاستواء بأحد هذه التفاسير حجة لإبطال الآخر؟ 

والجواب جواب

بل من تأمل في مخارج تفاسير الاستواء الخمسة (ارتفع - علا - صعد - استقر - جلس) وجد الجلوس أكثر ذكرا في كلام السلف من غيرها وإلا فليأتنا المخالف بمثل هذا العدد من النصوص في إثبات "صعد" مثلا!

والمعاصرون الذين أثبتوا الأربعة اعتمدوا نقل ابن القيم الإجماع السلفي عليها وهو نفسه نقل تلقي الناس للجلوس فليتأمل في هذا التناقض المكشوف

الاعتراض الرابع: قد جاء في هذه الآثار إثبات الجلوس على الكرسي والاستواء على العرش فما هذا؟

الجواب أن يقال: أما محاولة جعل الاضطراب بين ذكر بعضهم الكرسي وذكر بعضهم العرش فيقال:

لو كنت نبيها لتنبهت إلى أن الروايات التي فيها ذكر الكرسي مقيدة بيوم القيامة

وقد ورد عن ابن مسعود مرفوعا قال: "يجمعُ اللهُ الأوَّلين والآخِرين لميقاتِ يومٍ معلومٍ أربعين سنةً ، شاخصةً أبصارُهم إلى السماءِ ينظرون إلى فصلِ القضاءِ ، فينزلُ اللهُ من العرشِ إلى الكرسيِّ في ظُلَلٍ من الغمامِ" صححه الإمام أحمد وابن تيمية والذهبي وابن القيم وابن عبد الهادي والعسقلاني وغيرهم

ووردت الأحاديث الأخرى في وضع الكرسي لفصل القضاء

قال ابن كثير: "وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية"

وكون الله تعالى سيجلس على الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء فيه نكتنان:

الأولى أنه إثبات صفة الجلوس
الثانية أنه لا يمنع أن الله يجلس على غيره إذا شاء وقد فسر السلف الاستواء على العرش بالجلوس

الاعتراض الخامس: مقام الشفاعة مقال الخضوع والذل وتفسير المقام المحمود بالإجلاس لا يناسب الذل والخضوع!

والجواب عن هذا الاعتراض السخيف بأن المقام مقام الخضوع فنعم المقام مقام الخضوع والذل قبل الإذن ومقام شرف النبي وإكرامه بعد الإذن

كما هو صريح في قول الله تعالى "ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع"

والإجلاس يكون بعد الإذن لا قبله ويكون علامته

قال السخاوي: "وعلى تقدير صحة هذه الأقوال لا تنافي بينها لإحتمال أن يكون الإجلاس علامة الأذن في الشفاعة "

الاعتراض السادس وهو خاص في أثر مجاهد: قول صالح آل الشيخ أنهم كانوا يريدون بأثر مجاهد مجرد إثبات الاستواء لكن ما تفرد به مجاهد من جهة الإجلاس لا يأخذون به

أما توجيه صالح آل الشيخ وهو قوله أنهم كانوا يريدون بأثر مجاهد مجرد إثبات الاستواء لكن ما تفرد به مجاهد من جهة الإجلاس لا يأخذون به- فهو توجيه مردود تماما بنصوصهم الصريحة بالأخذ بهذا في تفسير المقام المحمود

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "هَذِهِ الأَحَادِيثُ حَقٌّ لاَ يُشَكُّ فِيهَا , نَقَلَهَا الثِّقَاتُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ حَتَّى صَارَتْ إِلَيْنَا , نُصَدِّقُ بِهَا , وَنُؤْمِنُ بِهَا عَلَى مَا جَاءَتْ"

قال إسحاق: "يَجب الإِيمَانُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ"

قال ابن أبي شيبة في المصنف:"(باب) مَا أَعْطَى اللهُ مُحَمَّدًا صَلى الله عَليهِ وسَلمَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : {عَسَى أَنْ يَبْعَثَك رَبُّك مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ : يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ"

قال ابن بطة وهو يذكر عقائد أهل السنة: " وَيَجْلِسُ مَعَ رَبِّهِ عَلَى العَرْشِ وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرَهُ.. وَهَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ اَللَّيْثِ عَنْهُ"

قال الأنصاري في تفسير آية الإسراء: "اعلم ان أصحاب الحديث الذين هم نقلة الاخبار و خزنة الآثار اتفّقوا على ان هذا التأويل صحيح"

وقد سبق نقل بعض كلامهم بما فيه كفاية في رد هذا التوجيه والقطع بخطئه

الاعتراض السابع: قولهم: ابن خليفة تفرد به ولا يحتمل تفرده

 بل يحتمل تفرده فقد احتمله الأئمة كأحمد ووكيع وأمثالهم ممن ذكرت وصححوا هذا الحديث

وذكرت أن غالب ألفاظه أتت في حديث جبير بن مطعم وغيره

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَلَفْظُ " الْأَطِيطِ " قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ . وَابْنُ عَسَاكِر عَمِلَ فِيهِ جُزْءًا وَجَعَلَ عُمْدَةَ الطَّعْنِ فِي ابْنِ إسْحَاقَ . وَالْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا لَهُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى"

قال ابن القيم: "وقد روى هذا المعنى عن النبي من غير حديث ابن إسحاق فقال محمد بن عبد الله الكوفي المعروف بمطين حدثنا عبد الله ابن الحكم وعثمان قالا حدثنا يحيى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر قال أتت النبي امرأة فقالت ادع الله أن يدخلني الجنة فعظم أمر الرب ثم قال إن كرسيه فوق السموات والأرض وإنه يقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصابعه فجمعها وإن له أطيطا كأطيط الرحل الحديث"

فلا تفرد ولا نكارة ولله الحمد






هل أعجبك الموضوع ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2014 © مدونة أبي موسى الروسي